الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***
{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} لما ذكر تعالى أهوال يوم القيامة، أعقب ذلك بحال السعداء والأشقياء. والظاهر أنه إخبار لنا بما يكونون فيه إذا صاروا إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب. وقيل: هو حكاية ما يقال في ذلك اليوم، وفي مثل هذه الحكاية زيادة تصوير للموعود له في النفوس، وترغيب إلى الحرص عليه وفيما يثمره؛ والظاهر أن الشغل هو النعيم الذي قد شغلهم عن كل ما يخطر بالبال. وقال قريباً منه مجاهد، وبعضهم خص هذا الشغل بافتضاض الأبكار، قاله ابن عباس؛ وعنه أيضاً: سماع الأوتار. وعن الحسن: شغلوا عن ما فيه أهل النار. وعن الكلبي: عن أهاليهم من أهل النار، لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا. وعن ابن كيسان: الشغل: التزاور. وقيل: ضيافة الله، وأفرد الشغل ملحوظاً فيه النعيم، وهو واحد من حيث هو نعيم. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو: بضم الشين وسكون الغين؛ وباقي السبعة بضمها؛ ومجاهد، وأبو السمال، وابن هبيرة فيما نقل ابن خالويه عنه: بفتحتين؛ ويزيد النحوي، وابن هبيرة، فيما نقل أبو الفضل الرازي: بفتح الشين وإسكان الغين. وقرأ الجمهور: {فاكهون}، بالألف؛ والحسن، وأبو جعفر، وقتادة، وأبو حيوة، ومجاهد، وشيبة، وأبو رجاء، ويحيى بن صبيح، ونافع في رواية: بغير ألف؛ وطلحة، والأعمش: فاكهين، بالألف وبالياء نصباً على الحال، وفي شغل هو الخبر. فبالألف أصحاب فاكهة، كما يقال لابن وتامر وشاحم ولاحم، وبغير ألف معناه: فرحون طربون، مأخوذ من الفكاهة وهي المزحة، وقرئ: فكهين، بغير ألف وبالياء. وقرئ: فكهون، بضم الكاف. يقال: رجل فكه وفكه، نحو: يدس ويدس. ويجوز في هم أن يكون مبتدأ، وخبره في ظلال، ومتكئون خبر ثان، أو خبره متكئون، وفي ظلال متعلق به، أو يكون تأكيداً للضمير المستكن في فاكهون، وفي ظلال حال، ومتكئون خبر ثان لأن، أو يكون تأكيداً للضمير المستكن في شغل، المنتقل إليه من العامل فيه. وعلى هذا الوجه والذي قبله يكون الأزواج قد شاركوهم في التفكه والشغل والاتكاء على الأرائك، وذلك من جهة المنطوق. وعلى الأول، شاركوهم في الظلال والاتكاء على الأرائك من حيث المنطوق، وهن قد شاركنهم في التفكه والشغل من حيث المعنى. وقرأ الجمهور: {في ظلال}. قال ابن عطية: وهو جمع ظل، إذ الجنة لا شمس فيها، وإنما هواؤها سجسج، كوقت الأسفار قبل طلوع الشمس. انتهى. وجمع فعل على فعال في الكثرة، نحو: ذئب وذئاب. وأما أن وقت الجنة كوقت الأسفار قبل طلوع الشمس، فيحتاج هذا إلى نقل صحيح. وكيف يكون ذلك؟ وفي الحديث ما يدل على حوراء من حور الجنة، لو ظهرت لأضاءت منها الدنيا، أو نحو من هذا؟ قال: ويحتمل أن يكون جمع ظلة. قال أبو عليّ: كبرمة وبرام. وقال منذر بن سعيد: جمع ظلة، بكسر الظاء. قال ابن عطية: وهي لغة في ظلة. انتهى. فيكون مثل لقحة ولقاح، وفعال لا ينقاس في فعلة بل يحفظ. وقرأ عبد الله، والسلمي، وطلحة، وحمزة، والكسائي: في ظل جمع ظلة، وجمع فعلة على فعل مقيس، وهي عبارة عن الملابس والمراتب من الحجال والستور ونحوها من الأشياء التي تظل. وقرأ عبد الله: متكئين، نصب على الحال؛ ويدعون مضارع ادعى، وهو افتعل من دعا، ومعناه: ولهم ما يتمنون. قال أبو عبيدة: العرب تقول ادع علي ما شئت، بمعنى تمن عليّ وتقول فلان في خبر ما تمنى. قال الزجاج: وهو من الدعاء، أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم. وقيل: يدعون به لأنفسهم. وقيل: يتداعونه لقوله ارتموه وتراموه. وقرأ الجمهور: سلام بالرفع. وهو صفة لما، أي مسلم لهم وخالص. انتهى. ولا يصح إن كان ما بمعنى الذي، لأنها تكون إذ ذاك معرفة. وسلام نكرة، ولا تنعت المعرفة بالنكرة. فإن كانت ما نكرة موصوفة جاز، إلا أنه لا يكون فيه عموم، كحالها بمعني الذي. وقيل: سلام مبتدأ ويكون خبره ذلك الفعل الناصب لقوله: {قولاً}، أي سلام يقال، {قولاً من رب رحيم}، أو يكون عليكم محذوفاً، أي سلام عليكم، {قولاً من رب رحيم}. وقيل: خبر مبتدأ محذوف، أي هو سلام. وقال الزمخشري: {سلام قولاً} بدل من {ما يدعون}، كأنه قال: لهم سلام يقال لهم قولاً من جهة رب رحيم، والمعنى: أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة، أو بغير واسطة، مبالغة في تعظيمهم، وذلك متمناهم، ولهم ذلك لا يمنعونه. قال ابن عباس: والملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين. انتهى. وإذا كان سلام بدلاً من ما يدعون خصوصاً. والظاهر أنه عموم في كل ما يدعون، وإذا كان عموماً، لم يكن سلام بدلاً منه. وقيل: سلام خبر لما يدعون، وما يدعون مبتدأ، أي ولهم ما يدعون سلام خالص لا شرب فيه، وقولاً مصدر مؤكد، كقوله: {ولهم ما يدعون سلام}: أي عدة من رحيم. قال الزمخشري: والأوجه أن ينتصب على الاختصاص، وهو من مجازه. انتهى. ويكون لهم متعلقاً على هذا الإعراب بسلام. وقرأ محمد بن كعب القرظي: سلم، بكسر السين وسكون اللام، ومعناه سلام. وقال أبو الفضل: الرازي: مسالم لهم، أي ذلك مسالم. وقرأ أبيّ، وعبد الله، وعيسى، والقنوي: سلاماً، بالنصب على المصدر. وقال الزمخشري: نصب على الحال، أي لهم مرادهم خالصاً. {وامتازوا اليوم}: أي انفردوا عن المؤمنين، لأن المحشر جمع البر والفاجر، فأمر المجرمون بأن يكونوا على حدة من المؤمنين. والظاهر أن ثم قولاً محذوفاً لما ذكر تعالى ما يقال للمؤمنين في قوله: {سلام قولاً من رب رحيم}، قيل: ويقال للمجرمين: {امتازوا}. ولما امتثلوا ما أمروا به، قال لهم على جهة التوبيخ والتقريع: {ألم أعهد إليكم}؟ وقفهم على عهده إليهم ومخالفتهم إياه. وعن الضحاك: لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى، فعلى هذا معناه أن بعضهم من بعض. وعن قتادة: اعتزلوا عن كل خير. والعهد: الوصية، عهد إليه إذا وصاه. وعهد الله إليهم: ما ركز فيهم من أدلة العقل، وأنزل إليهم من أدلة السمع. وعبادة الشياطين: طاعته فيما يغويه ويزينه. وقرأ الجمهور: أعهد، بفتح الهمزة والهاء. وقرأ طلحة، والهذيل بن شرحبيل الكوفي: بكسر الهمزة، قاله صاحب اللوامح، وقال لغة تميم، وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين حروف المضارعة، يعني: نعهد وتعهد. وقال ابن خالويه: ألم أعهد؛ يحيى بن وثاب: ألم أحد، تميم. وقال ابن عطية: وقرأ الهذيل ابن وثاب: ألم أعهد، بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء، وهي على لغة من كسر أول المضارع سوى الياء. وروي عن ابن وثاب: ألم أعهد، بكسر الهاء، يقال: عهد يعهد. انتهى. وقوله: بكسر الميم والهمزة يعني أن كسر الميم يدل على كسر الهمزة، لأن الحركة التي في الميم هي حركة نقل الهمزة المكسورة، وحذفت الهمزة حين نقلت حركتها إلى الساكن قبلها وهو الميم. اعهد بالهمزة المقطوعة المكسورة لفظاً، لأن هذا لا يجوز. وقال الزمخشري: وقرئ أعهد بكسر الهمزة، وباب فعل كله يجوز في حروف مضارعته الكسر إلا في الياء؛ وأعهد بكسر الهاء. وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم، وضرب يضرب، وأحهد بالحاء وأحد، وهي لغة تميم، ومنه قولهم: دحا محا. انتهى. وقوله: إلا في الياء، لغة لبعض كلب أنهم يكسرون أيضاً في الياء، يقولون: هل يعلم؟ وقوله: دحا محا، يريدون دعها معها، أدغموا العين في الحاء، والإشارة بهذا إلى ما عهد إليهم معصيه الشيطان وطاعة الرحمن. وقرأ نافع، وعاصم: {جبلاً}، بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وهي قراءة أبي حيوة، وسهيل، وأبي جعفر، وشيبة، وأبي رجاء؛ والحسن: بخلاف عنه. وقرأ العربيان، والهذيل بن شرحبيل: بضم الجيم وإسكان الباء؛ وباقي السبعة: بضمها وتخفيف اللام؛ والحسن بن أبي إسحاق، والزهري، وابن هرمز، وعبدالله بن عبيد بن عمير، وحفص بن حميد: بضمتين وتشديد اللام؛ والأشهب العقيلي، واليماني، وحماد بن مسلمة عن عاصم: بكسر الجيم وسكون الباء؛ والأعمش: جبلاً، بكسرتين وتخفيف اللام. وقرئ: جبلاً بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام، جمع جبلة، نحو فطرة وفطر، فهذه سبع لغات قرئ بها. وقرأ علي بن أبي طالب وبعض الخراسانيين: جيلاً، بكسر الجيم بعدها ياء آخر الحروف، واحد الأجيال؛ والجبل بالباء بواحدة من أسفل الأمة العظيمة. وقال الضحاك: أقله عشرة آلاف. خاطب تعالى الكفار بما فعل معهم الشيطان تقريعاً لهم. وقرأ الجمهور: {أفلم تكونوا} بتاء الخطاب؛ وطلحة، وعيسى: بياء الغيبة، عائداً على جبل. ويروى أنهم يجحدون ويخاصمون، فيشهد عليهم جيرانهم وعشائرهم وأهاليهم، فيحلفون ما كانوا مشركين، فحينئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم. وفي الحديث: «يقول العبد يوم القيامة: إني لا أجيز عليّ شاهد إلا من نفسي فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله، ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقال: بعداً لكنّ وسحقاً، فعنكنّ كنت أناضل» وقرئ: يختم مبنياً للمفعول، وتتكلم أيديهم، بتاءين. وقرئ: ولتكلمنا أيديهم ولتشهد بلام الأمر والجزم على أن الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة. وروي عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده طلحة أنه قرأ: ولتكلمنا أيديهم ولتشهد، بلام كي والنصب على معنى: وكذلك يختم على أفواهم. والظاهر أن الأعين هي الأعضاء المبصرة، والمعنى: لأعميناهم فلا يرون كيف يمشون، قاله الحسن وقتادة، ويؤيده مناسبة المسخ، فهم في قبضة القدرة وبروج العذاب إن شاءه الله لهم. وقال ابن عباس: أراد عين البصائر، والمعنى: ولو نشاء لختمت عليهم بالكفر فلا يهتدي منهم أحد أبداً. والطمس: إذهاب الشيء وأثره جملة حتى كأنه لم يوجد. فإن أريد بالأعين الحقيقة، فالظاهر أنه يطمس بمعنى يمسخ حقيقة، ويجوز أن يكون الطمس يراد به العمى من غير إذهاب العضو وأثره. وقرأ الجمهور: {فاستبقوا}، فعلاً ماضياً معطوفاً على {لطمسنا}، وهو على الفرض والتقدير. والصراط منصوب على تقدير إلى حذفت ووصل الفعل، والأصل فاستبقوا إلى الصراط، أو مفعولاً به على تضمين استبقوا معنى تبادروا، وجعله مسبوقاً إليه. قال الزمخشري: أو ينتصب على الظرف، وهذا لا يجوز، لأن الصراط هو الطريق، وهو ظرف مكان مختص. لا يصل إليه الفعل إلا بوساطة في إلا في شذوذ، كما أنشد سيبويه: لدن بهز الكف يعسل متنه *** فيه كما عسل الطريق الثعلب ومذهب ابن الطراوة أن الصراط والطريق والمخرم، وما أشبهها من الظروف المكانية ليست مختصة، فعلى مذهبة يسوع ما قاله الزمخشري. وقرأ عيسى: فاستبقوا على الأمر، وهو على إضمار القول، أي فيقال لهم استبقوا الصراط، وهذا على سبيل التعجيز، إذ لا يمكنهم الاستباق مع طمس الأعين. {فأنى يبصرون}: أي كيف يبصر من طمس على عينه؟ والظاهر أن المسخ حقيقة، وهو تبديل صورهم بصور شنيعة. قال ابن عباس: {لمسخناهم} قردة وخنازير، كما تقدم في بني إسرائيل؛ وقيل حجارة. وقال الحسن، وقتادة، وجماعة: لأقعدناهم وأزمناهم، فلا يستطيعون تصرفاً. والظاهر أن هذا لو كان يكون في الدنيا. وقال ابن سلام: هذا التوعد كله يوم القيامة. وقرأ الحسن: {على مكانتهم}، بالافراد، وهي المكان، كالمقامة والمقام. وقرأ الجمهور، وأبو بكر: بالجمع. والجمهور: {مضياً}، بضم الميم: وأبو حيوة، وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي: بكسرها اتباعا لحركة الضاد، كالعتبى والقتبى، وزنه فعول. التقت واو ساكنة وياء، فأبدلت الواو ياء، وأدغمت في الياء، وكسر ما قبلها لتصح الياء. وقرئ: مضياً، بفتح الميم، فيكون من المصادر التي جاءت على فعيل، كالرسيم والوجيف. ولما ذكر تعالى الطمس والمسخ على تقدير المشبه، ذكر تعالى دليلاً على باهر قدرته في تنكيس المعمر، وأن ذلك لا يفعله إلا هو تعالى. وتنكيسه: قلبه وجعله على عكس ما خلقه أولاً، وهو أنه خلقه على ضعف في جسد وخلو من عقل وعلم، ثم جعله يتزايد وينتقل من حال إلى حال، إن أن يبلغ أشده وتستكمل قوته، ويعقل ويعلم ما له وما عليه. فإذا انتهى نكسه في الخلق، فيتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبا في ضعف جسده وقلة عقله وخلوه من الفهم، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله، وفي هذا كله دليل على أن من فعل هذه الأفاعيل قادر على أن يطمس وأن يفعل بهم ما أراد. وقرأ الجمهور: {ننكسه}، مشدداً؛ وعاصم، وحمزة: مخففاً. وقرأ نافع، وابن ذكوان، وأبو عمرو في رواية عباس: تعقلون بتاء الخطاب؛ وباقي السبعة: بياء الغيبة. {وما علمناه الشعر}: الضمير في علمناه للرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يقولون فيه شاعر. وروي أن القائل عقبة بن أبي معيط، فنفى الله ذلك عنه، وقولهم فيه شاعر. أما من كان في طبعه الشعر، فقوله مكابرة وإيهام للجاهل بالشعر؛ وأما من ليس في طبعه، فقوله جهل محض. وأين هو من الشعر؟ والشعر إنما هو كلام موزون مقفى يدل على معنى تنتخبه الشعراء من كثرة التخييل وتزويق الكلام، وغير ذلك مما يتورع المتدين عن إنشاده، فضلاً عن إنشائه: وكان عليه السلام لا يقول الشعر، وإذا أنشد بيتاً أحرز المعنى دون وزنه، كما أنشد: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا *** ويأتيك من لم تزود بالأخبار وقيل: من أشعر الناس، فقال الذي يقول: ألم ترياني كلما جئت طارقا *** وجدت بها وإن لم تطيب طيباً أتجعل نهبي ونهب العبيد *** بين الأقرع وعيينة وأنشد يوماً: كفى بالاسلام والشيب ناهياً *** فقال أبو بكر وعمر: نشهد أنك رسول الله، إنما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام، وربما أنشد البيت متزناً في النادر. وروي عنه أنشد بيت أبن رواحة: يبيت يجافي جنبه عن فراشه *** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع ولا يدل إجراء البيت على لسانه متزناً أنه يعلم الشعر، وقد وقع في كلامه عليه السلام ما يدخله الوزن كقوله: أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب وكذلك قوله: هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت وهو كلام من جنس كلامه الذي كان يتكلم به على طبيعته، من غير صنعة فيه ولا قصد لوزن ولا تكلف. كما يوجد في القرآن شيء موزون ولا يعد شعراً، كقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وقوله: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} وفي كثير من النثر الذي تنشئه الفصحاء، ولا يسمى ذلك شعراً، ولا يخطر ببال المنشي ولا السامع أنه شعر. {وما ينبغي له}: أي ولا يمكن له ولا يصح ولا يناسب، لأنه عليه السلام في طريق جد محض، والشر أكثره في طريق هزل، وتحسين لما ليس حسناً، وتقبيح لما ليس قبيحاً ومغالاة مفرطة. جعله تعالى لا يقرض الشعر، كما جعله أمياً لا يخط، لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض. وقيل: في هذه الآية دلالة على غضاضة الشعر، وقد قال عليه السلام: «ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي» وذهب قوم إلى أنه لا غضاضة فيه، وإنما منعه الله نبيه عليه الصلاة والسلام. وإن كان حلية جليلة ليجيء القرآن من قبله أغرب، فإنه لو كان له إدراك الشعر لقيل في القرآن: هذا من تلك القوة. قال ابن عطية: وليس الأمر عندي كذلك، وقد كان عليه السلام من الفصاحة والبيان في النثر في الرتبة العليا، ولكن كلام الله يبين بإعجازه ويندر بوصفه، ويخرجه إحاطة علم الله عن كل كلام؛ وإنما منع الله نبيه من الشعر ترفيعاً له عن ما في قول الشعراء من التخييل والتزويق للقول. وأما القرآن فهو ذكر بحقائق وبراهين، فما هو بقول شاعر، وهذا كان أسلوب كلامه، عليه السلام، وقولاً واحداً. انتهى. والضمير في له للرسول، أي وما ينبغي الشعر لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبعد من ذهب إلى أنه عائد على القرآن، أي وما ينبغي الشعر للقرآن، ولم يجر له ذكر، لكن له أن يقول: يدل الكلام عليه، ويبينه عود الضمير عليه في قوله: {إن هو إلا ذكر وقرآن مبين}: أي كتاب سماوي يقرأ في المحاريب، وينال بتلاوته والعمل به ما فيه فوز الدارين. فكم بينه وبين الشعر الذي أكثره من همزات الشياطين؟ وقرأ نافع، وابن عامر: لتنذر بتاء الخطاب للرسول؛ وباقي السبعة: بالياء للغيبة، فاحتمل أن يعود على الرسول، واحتمل أن يعود على القرآن. وقرأ اليماني: {لينذر}، بالياء مبنياً للمفعول، ونقلها ابن خالويه عن الجحدري. وقال عن أبي السمال واليماني أنهما قرآ: لينذر، بفتح الياء والذال مضارع نذر بكسر الذال، إذا علم بالشيء فاستعد له. {من كان حياً}: أي غافلاً، قاله الضحاك، لأن الغافل كالميت؛ ويريد به من حتم عليه بالإيمان، وكذلك قابله بقوله: {ويحق القول}: أي كلمة العذاب، {على الكفارين} المحتوم لهم بالموافاة على الكفر.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} الإخبار وتنبيه الاستفهام لقريش، وإعراضها عن عبادة الله، وعكوفها على عبادة الأصنام. ولما كانت الأشياء المصنوعة لا يباشرها البشر إلا باليد، عبر لهم بما يقرب من أفهامهم بقوله: {مما عملت أيدينا}: أي مما تولينا عمله، ولا يمكن لغيرنا أن يعمله. فبقدرتنا وإرداتنا برزت هذه الأشياء، لم يشركنا فيها أحد، والباري تعالى منزه عن اليد التى هي الجارحة، وعن كل ما اقتضى التشبيه بالمحدثات. وذكر الأنعام لها لأنها كانت جل أموالهم، ونبه على ما يجعل لهم من منافعها. {لها مالكون}: أي ملكناها إياهم، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك، مختصون بالانتفاع بها، أو {مالكون}: ضابطون لها قاهرونها، من قوله: أصبحت لا أحمل السلاح ولا *** أملك رأس البعير إن نفرا أي: لا أضبطه، وهو من جملة النعم الظاهرة. فلولا تذليله تعالى إياها وتسخيره، لم يقدر عليها. ألا ترى إلى ما ندَّ منها لا يكاد يقدر على ردة؟ لذلك أمر بتسبيح الله راكبها، وشكره على هذه النعمة بقوله بقوله: {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين} وقرأ الجمهور: {ركوبهم}، وهو فعول بمعنى مفعول، كالحضور والحلوب والقذوع، وهو مما لا ينقاس. وقرأ أبي، وعائشة: ركوبتهم بالتاء، وهي فعولة بمعنى مفعولة. وقال الزمخشري: وقيل الركوبة جمع. انتهى، ويعني اسم جمع، لأن فعولة بفتح الفاء ليس بجمع تكسير. وقد عد بعض أصحابنا أبنية أسماء الجموع، فلم يذكر فيها فعولة، فينبغي أن يعتقد فيها أنها اسم مفرد لاجمع تكسير ولا اسم جمع، أي مركوبتهم كالحلوبة بمعنى المحلوبة. وقرأ الحسن، وأبو البرهسم، والأعمش: ركوبهم، بضم الراء وبغير تاء، وهو مصدر حذف مضافة، أي ذو ركوبهم، أو فحسن منافعها ركوبهم، فيحذف ذو، أو يحذف منافع. قال ابن خالويه: العرب تقول: ناقة ركوب حلوب، وركوبة حلوبة، وركباة حلباة، وركبوب حلبوب، وركبي حلبي، وركبوتا حلبوتا، كل ذلك محكي، وأنشد: ركبانة حلبانة زفوف *** تخلط بين وبر وصوف وأجمل المنافع هنا، وفضلها في قوله: {وجعل لكم من جلود الأنعام} الآية. والمشارب: جمع مشرب، وهو إما مصدر، أي شرب، أو موضع الشرب. ثم عنفهم واستجهلهم في اتخاذهم آلهة لطلب الاستنصار. {لا يستطيعون}: أي الآلهة، نصر متخذيهم، وهذا هو الظاهر. لما اتخذوهم آلهة للاستنصار بهم، رد تعالى عليهم بأنهم ليس لهم قدرة على نصرهم. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الضمير في {يستطيعون} عائد للكفار، وفي {نصرهم} للأصنام. انتهى. والظاهر أن الضمير في وهم عائد على ما هو الظاهر في {لا يستطيعون}، أي والآلهة للكفار جند محضرون في الآخرة عند الحساب على جهة التوبيخ والنقمة. وسماهم جنداً، إذ هم معدون للنقمة من عابديهم وللتوبيخ، أو محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقوداً للنار. قيل: ويجوز أن يكون الضمير في وهم عائداً على الكفار، وفي لهم عائداً على الأصنام، أي وهم الأصنام جند محضرون متعصبون لهم متحيرون، يذبون عنهم، يعني في الدنيا، ومع ذلك لا يستطيعون، أي الكفار التناصر. وهذا القول مركب على أن الضمير في لا يستطيعون للكفار. ثم آنس تعالى نبيه بقوله: {فلا يحزنك قولهم}: أي لا يهمك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم، وتوعد الكفار بقوله: {إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون}، فنجازيهم على ذلك. {أوَلم يرى الإنسان}: قبح تعالى إنكار الكفرة البعث، حيث قرر أن عنصره الذي خلق منه هو نطفة ماء مهين خارج من مخرج النجاسة. أفضى به مهانة أصلة إلى أن يخاصم الباري تعالى ويقول: من يحيى الميت بعدما رمّ؟ مع علمه أنه منشأ من موات. وقائل ذلك العاصي بن وائل، أو أمية بن خلف، أو أبي بن خلف، أقوال أصحها أنه أبي بن خلف، رواه ابن وهب عن مالك، وقاله ابن اسحاق وغيره. والقول أنه أمية، قاله مجاهد وقتادة؛ ويحتمل أن كلاً منهم واقع ذلك منه. وقد كان لأبي مع الرسول مراجعات ومقامات، جاء بالعظم الرميم بمكة، ففتته في وجهه الكريم وقال: من يحيى هذا يا محمد؟ فقال: «الله يحييه ويميتك ويحييك ويدخلك جهنم»، ثم نزلت الآية. وأبيّ هذا قتلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يوم أُحُد بالحرية، فخرجت من عنقه. ووهم من نسب إلى ابن عباس أن الجائي بالعظم هو عبد الله بن أبي بن سلول، لأن السورة والآية مكية بإجماع، ولأن عبد الله بن أبي لم يهاجر قط هذه المهاجرة. وبين قوله: {فإذا هو خصيم مبين} وبين: {خلقناه من نطفة}، جمل محذوفة تبين أكثرها في قوله في سورة المؤمنون: {ثم جعلناه نطفة في قرار مكين} وإنما اعتقب قوله: {فإذا هو خصيم مبين} الوصف الذي آل إليه من التمييز والإدراك الذي يتأتى معه الخصام، أي فإذا هو بعدما كان نطفة، رجل مميز منطيق قادر على الخصام، مبين معرب عما في نفسه. {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه}: أي نشأته من النطفة، فذهل عنها وترك ذكرها على طريق اللدد والمكابرة والاستبعاد لما لا يستبعد. وقرأ زيد بن علي: ونسي خالقه، اسم فاعل؛ والجمهور: خلقه، أي نشأته. وسمى قوله: {من يحيي العظام وهي رميم} لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل، وهي إنكار قدرة الله على إحياء الموتى، كما هم عاجزون عن ذلك. وقال الزمخشري: والرميم اسم لما بلى من العظام غير صفة، كالرمة والرفاة، فلا يقال: لم لم يؤنث؟ وقد وقع خبراً لمؤنث، ولا هو فعيل أو مفعول. انتهى. واستدل بقوله: {قل يحييها} على أن الحياة نحلها، وهذا الاستدلال ظاهر. ومن قال: إن الحياة لا تحلها، قال: المراد بإحياء العظام: ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حسن حساس. {وهو بكل خلق عليم}: يعلم كيفيات ما يخلق، لا يتعاظمه شيء من المنشآت والمعدات جنساً ونوعاً، دقة وجلالة. {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً}: ذكر ما هو أغرب من خلق الإنسان من النطفة، وهو إبراز الشيء من ضده، وذلك أبدع شيء، وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر. ألا ترى أن الماء يطفى النار؟ ومع ذلك خرجت مما هو مشتمل على الماء. والأعراب توري النار من الشجر الأخضر، وأكثرها من المرخ والعفار. وفي أمثالهم: في كل شيء نار، واستمجد المرخ والعفار. يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين، وهما أخضران يقطر منهما الماء، فيستحق المرخ وهو ذكر، والعفار وهي أنثى، ينقدح النار بإذن الله عز وجل. وعن ابن عباس: ليس شجر إلا وفيه نار إلا العنا. وقرأ الجمهور: الأخضر؛ وقرئ: الخضراء؛ وأهل الحجاز يؤنثون الجنس المميز واحده بالتاء؛ وأهل نجد يذكرون ألفاظاً، واستثنيت في كتب النحو. ثم ذكر ما هو أبدع وأغرب من خلق الإنسان من نطفة، ومن إعادة الموتى، وهو إنشاء هذه المخلوقات العظيمة الغريبة من صرف العدم إلى الوجود، فقال: {أوَليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم}؟ وقرأ الجمهور: بقادر، بباء الجر داخلة على اسم الفاعل. وقرأ الجحدري، وابن أبي إسحاق، والأعرج، وسلام، ويعقوب: يقدر، فعلاً مضارعاً، أي من قدر على خلق السموات والأرض من عظم شأنهما، كان على خلق الأناس قادراً، والضمير في مثلهم عائد على الناس، قاله الرماني. وقال جماعة من المفسرين: عائد على السموات والأرض، وعاد الضمير عليهما كضمير من يعقل، من حيث كانت متضمنة من يعقل من الملائكة والثقلين. وقال الزمخشري: {مثلهم} يحتمل معنيين: أن يخلق مثلهم في الصغر والقماءة بالإضافة إلى السموات والأرض، أو أن يعيدهم، لأن المصادر مثل للمبتدأ وليس به. انتهى. ويقول: إن المعاد هو عين المبتدأ، ولو كان مثله لم يسم ذلك إعادة، بل يكون إنشاء مستأنفاً. وقرأ الجمهور: {الخلاق} نسبة المبالغة لكثرة مخلوقاته. وقرأ الحسن، والجحدري، ومالك بن دينار، وزيد بن علي: الخالق، اسم فاعل. {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}: تقدّم شرح مثل هذه الجملة، والخلاف في فيكون من حيث القراءة نصباً ورفعاً. {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء}: تنزيه عام له تعالى من جميع النقائص. وقرأ الجمهور: ملكوت؛ وطحلة، والأعمش: ملكة على وزن شجرة، ومعناه: ضبط كل شيء والقدرة عليه. وقرئ: مملكة، على وزن مفعلة؛ وقرئ: ملك، والمعنى أنه متصرف فيه على ما أراد وقضى. والجمهور: {ترجعون}، مبنياً للمفعول، وزيد بن علي: مبنياً للفاعل.
{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)} هذه السورة مكية، ومناسبة أولها لآخر يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته على إحياء الموتى، وأنه هو منشئهم، وإذا تعلقت إرادته بشيء، كان ذكر تعالى وحدانيته، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة وجوداً وعدماً إلا بكون المريد واحداً، وتقدم الكلام على ذلك في قوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} وأقسم تعالى بأشياء من مخلوقاته فقال: {والصافات}. قال ابن مسعود، وقتادة، ومسروق: هم الملائكة، تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفاً؛ وقيل: تصف أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله. وقيل: من يصف من بني آدم في قتال في سبيل الله، أو في صلاة وطاعة. وقيل: والطير صافات. والزاجرات، قال مجاهد، والسدي: الملائكة تزجر السحاب وغيرها من مخلوقات الله تعالى. وقال قتادة: آيات القرآن لتضمنه النواهي الشرعية؛ وقيل: كل ما زجر عن معاصي الله. والتاليات: القارئات. قال مجاهد: الملائكة يتلون ذكره. وقال قتادة: بنو آدم يتلون كلامه المنزل وتسبيحه وتكبيره. وقال مجاهد: الملائكة يتلون ذكره. قال الزمخشري: ويجوز أن يقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات، فالزاجرات بالموعظة والنصائح، فالتاليات آيات الله، والدارسات شرائعه؛ أو بنفوس قراء القرآن في سبيل الله التي تصف الصفوف، وتزجر الخيل للجهاد، وتتلوا الذكر مع ذلك لا يشغلها عنه تلك الشواغل. انتهى. وقال ما معناه: إن الفاء العاطفة في الصافات، إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله: يا لهف زيابة للحارث الصابح، فالغانم، فالآيب...، أي الذي صبح فغنم فآب؛ وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه، كقولك: خذ الأفضل فالأفضل، واعمل الأحسن فالأجمل؛ وإما على ترتيب موصوفاتها في ذلك، كقولك: رحم الله المحلقبين فالمقصرين. فأما هنا، فإن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتيب الصافات في التفاضل، فإذا كان الموحد الملائكة، فيكون الفضل للصف، ثم الزجر، ثم التلاوة؛ وإما على العكس، وإن تليت الموصوف، فترتب في الفضل، فتكون الصافات ذوات فضل، والزاجرات أفضل، والتاليات أبهر فضلاً، أو على العكس. انتهى. ومعنى العكس في المكانين: أنك ترتقي من أفضل إلى فاضل إلى مفضول؛ أو تبدأ بالأدنى، ثم بالفاضل، ثم بالأفضل. وأدغم ابن مسعود، ومسروق، والأعمش، وأبو عمرو، وحمزة: التاآت الثلاثة. والجملة المقسم عليها تضمنت وحدانيته تعالى، أي هو واحد من جميع الجهات التي ينظر فيها المتفكرون خبر بعد خبر، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار، أو خبر مبتدأ محذوف، وهو أمدح، أي هو رب. وذكر المشارق لأنها مطالع الأنوار، والإبصار بها أكلف، وذكرها يغني عن ذكر المغارب، إذ ذاك مفهوم من المشارق، والمشارق ثلاثمائة وستون مشرقاً، وكذلك المغارب. تشرق الشمس كل يوم من مشرق منها وتغرب في مغرب، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين. وثني في {رب المشرقين ورب المغربين} باعتبار مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. وقال ابن عطية: أراد تعالى مشارق الشمس ومغاربها، وهي مائة وثمانون في السنة، فيما يزعمون، من أطول أيام السنة إلى أقصرها. ثم أخبر تعالى عن قدرته بتزيين السماء بالكواكب، وانتظام التزيين أن جعلها حفظاً وحذراً من الشيطان. انتهى. والزينة مصدر كالسنة، واسم لما يزان به الشيء، كالليقة اسم لما يلاق به الدواة. وقرأ الجمهور: {بزينة الكواكب} بالإضافة، فاحتمل المصدر مضافاً للفاعل، أي بأن زانت السماء الكواكب، ومضافاً للمفعول، أي بأن زين الله الكواكب. واحتمل أن يكون ما يزان به، والكواكب بيان للزينة، لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به، أو مما زينت الكواكب من إضاءتها وثبوتها. وقرأ ابن مسعود، ومسروق: بخلاف عنه؛ وأبو زرعة، وابن وثاب، وطلحة: بزينة منوناً، الكواكب بالخفض بدلاً من زينة. وقرأ ابن وثاب، ومسروق: بخلاف عنهما؛ والأعمش، وطلحة، وأبو بكر: بزينه منوناً، الكواكب نصباً، فاحتمل أن يكون بزينة مصدراً، والكواكب مفعول به، كقوله: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً} واحتمل أن يكون الكواكب بدلاً من السماء، أي زينا كواكب السماء. وقرأ زيد بن علي بتنوين زينة، ورفع الكواكب على خبر مبتدأ، أي هو الكواكب، أو على الفاعلية بالمصدر، أي بأن زينت الكواكب. ورفع الفاعل بالمصدر المنون، زعم الفراء أنه ليس بمسموع، وأجاز البصريون ذلك على قلة. وقال ابن عباس: {بزينة الكواكب}: بضوء الكواكب؛ قيل: ويجوز أن يراد أشكالها المختلفة، كشكل الثريا، وبنات نعش، والجوزاء، وغير ذلك، ومطالعها ومسايرها. وخص {السماء الدنيا} بالذكر، لأنها التي تشاهد بالأبصار؛ والحفظ من الشياطين، إنما هو فيها وحدها. وانتصب {وحفظاً} على المصدر، أي وحفظناها حفظاً، أو على المفعول من أجله على زيادة الواو، أو على تأخير العامل، أي ولحفظها زيناها بالكواكب، وحملاً على معنى ما تقدم، لأن المعنى: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً: وكل هذه الأقوال منقولة، والمارد تقدم شرحه في قوله: {شيطاناً مريداً} في النساء، وهناك جاء {مريداً}، وهنا {مارد}، مراعاة للفواصل. {لا يسمعون إلا الملأ الأعلى}: كلام منقطع مبتدأ اقتصاصاً لما عليه حال المسترقة للسمع، وأنهم لا يقدرون أن يستمعوا أو يسمعوا، وهم مقذوفون بالشهب مبعدون عن ذلك، إلا من أمهل حتى خطف الخطفة واسترق استراقة، فعندها تعاجله الملائكة باتباع الشهاب الثاقب. ولا يجوز أن يكون لا يسمعون صفة ولا استئنافاً جواباً لسائل سأل لم يحفظ من الشياطين، لأن الوصف كونهم لا يسمعون، أو الجواب لا معنى للحفظ من الشياطين على تقديرهما، إذ يصير المعنى مع الوصف: وحفظاً من كل شيطان مارد غير سامع أو مسمع، وكذلك لا يستقيم مع كونه جواباً. وقول من قال: إن الأصل لأن لا يسمعوا، فحذفت اللام وإن، فارتفع الفعل، قول متعسف يصان كلام الله عنه. وقرأ الجمهور: لا يسمعون: نفي سماعهم، وإن كانوا يسمعون بقوله: {إنهم عن السمع لمعزولون} وعداه بإلى لتضمنه معنى الإصغاء. وقرأ ابن عباس بخلاف عنه؛ وابن وثاب، وعبد الله بن مسلم، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص: بشد السين والميم بمعنى لا يتسمعون، أدغمت التاء في السين، وتقتضي نفي التسمع. وظاهر الأحاديث أنهم يتسمعون حتى الآن، لكنهم لا يسمعون؛ وإن سمع أحد منهم شيئاً لم يفلت حرساً وشهباً من وقت بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الرجم في الجاهلية أحق، فأما كانت ثمرة التسمع هو السمع، وقد انتفى السمع بنفي التسمع في هذه القراءة لانتفاء ثمرته، وهو السمع. و{الملأ الأعلى} يعم الملائكة، والإنس والجن هم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض. وقال ابن عباس: هم أشراف الملائكة، وعنه كتابهم. {ويقذفون}: يرمون ويرجمون، {من كل جانب}: أي من كل جهة يصعدون إلى السماء منها، والمرجوم بها هي التي يراها الناس تنقض، وليست بالكواكب الجارية في السماء، لأن تلك لا ترى حركتها، وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا، قاله مكي والنقاش. وقرأ محبوب عن ابن عمرو: ويقذفون مبنياً للفاعل، ودحوراً مصدر في موضع الحال. قال مجاهد: مطرودين، أو مفعول من أجله، أي ولو يقذفون للطرد، أو مصدر ليقذفون، لأنه متضمن معنى الطرد، أي ويدحرون من كل جانب دحوراً، ويقذفون من كل جانب قذفاً. فإما أن يكون التجوز في ويقذفون، وإما في دحوراً. وقرأ عليّ، والسلمي، وابن أبي عبلة، والطبراني عن رجاله عن أبي جعفر: دحوراً، بنصب الدال، أي قذفاً دحوراً، بنصب الدال. ويجوز أن يكون مصدراً، كالقبول والولوغ، إلا أن هذه ألفاظ ذكر أنها محصورة. والواصب: الدائم، قاله السدّي وأبو صالح، وتقدّم في سورة النحل. ويقال: وصب الشيء وصوباً: دام. وقال مجاهد: الموجع، ومنه الوصب، كأن المعنى: أنهم في الدنيا مرجومون، وفي الآخرة معذبون. ويجوز أن يكون هذا العذاب الدائم لهم في الدنيا، وهو رجمهم دائماً، وعدم بلوغهم ما يقصدون من استراق السمع. {إلا من خطف الخطفة}: من بدل من الضمير في لا يسمعون، ويجوز أن يكون منصوباً على الاستثناء، أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف. وقرأ الجمهور: خطف ثلاثياً بكسر الطاء. وقرأ الحسن، وقتادة: بكسر الخاء والطاء مشددة. قال أبو حاتم: ويقال هي لغة بكر بن وائل وتميم بن مرة. وقرئ: خطف بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة، ونسبها ابن خالويه إلى الحسن وقتادة وعيسى، وعن الحسن أيضاً التخفيف. وأصله في هاتين القراءتين اختطف، ففي الأول لما سكنت للإدغام، والخاء ساكنة، كسرت لالتقاء الساكنين، فذهبت ألف الوصل وكسرت الطاء اتباعاً لحركة الخاء. وعن ابن عباس: خطف بكسر الخاء والطاء مخففة، اتبع حركة الخاء لحركة الطاء، كما قالوا نعم. وقرئ: فاتبعه، مخففاً ومشدداً. والثاقب، قال السدي وقتادة: هو النافذ بضوئه وشعاعه المنير.
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)} الاستفتاء نوع من السؤال، والهمزة، وإن خرجت إلى معنى التقرير، فهي في الأصل لمعنى الاستفهام، أي فاستخبرهم، والضمير لمشركي مكة. وقيل: نزلت في أبي الأشد بن كلدة، وكني بذلك لشدة بطشه وقوته. وعادل في هذا الاستفهام التقريري في الأشدية بينهم وبين من خلق من غيرهم من الأمم والجن والملائكة والأفلاك والأرضين. وفي مصحف عبد الله: أم من عددنا، وهو تفسير لمن خلقنا، أي من عددنا من الصافات وما بعدها من المخلوقين. وغلب العاقل على غيره في قوله: {من خلقنا}، واقتصر على الفاعل في {خلقنا}، ولم يذكر متعلق الخلق اكتفاء ببيان ما تقدمه، وكأنه قال: أم من خلقنا من غرائب المصنوعات وعجائبها. وقرأ الأعمش: أمن بتخفيف الميم دون أم، جعله استفهاماً ثانياً تقريراً أيضاً، فهما جملتان مستقلتان في التقرير، ومن مبتدأ، والخبر محذوف تقديره أشد. فعلى أم من هو تقرير واحد ونظيره: {أأنتم أشد خلقاً أم السماء} قال الزمخشري: وأشد خلقاً يحتمل أقوى خلقاً، من قولهم: شديد الخلق، وفي خلقه شدة، وأصعب خلقاً. وأشد خلقاً وأشقه يحتمل أقوى خلقاً من قولهم: شديد الخلق، وفي خلقه شدة، على معنى الرد، لإنكارهم البعث والنشأة الأخرى. وإن من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة، ولم يصعب عليه اختراعها، كان خلق الشر عليه أهون. وخلقهم من طين لازب، إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة، لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة؛ أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب. فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله؟ قالوا: {أئذا كنا تراباً}، وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث. انتهى. والذي يظهر الاحتمال الأول. وقيل: {أم من خلقنا} من الأمم الماضية، كقوله: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً} وقوله: {وكانوا أشد منكم قوة} وأضاف: الخلق من الطين إليهم، والمخلوق منه هو أبوهم آدم، إذ كانوا نسله. وقال الطبري: خلق ابن آدم من تراب وماء ونار وهواء، وهذا كله إذا خلط صار طيناً لازباً يلزم ما جاوره. وعن ابن عباس: اللازب بالجر، أي الكريم الجيد. وقرأ الجمهور: {بل عجبت}، بتاء الخطاب، أي من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة، وهم يسخرون منك ومن تعجبك، ومما تريهم من آثار قدرة الله، أو عجبت من إنكارهم البعث، وهم يسخرون من أمر البعث. أو عجبت من إعراضهم عن الحق وعماهم عن الهدى، وأن يكونوا كافرين مع ما جئتم به من عند الله. وقرأ حمزة، والكسائي، وابن سعدان، وابن مقسم: بياء المتكلم. ورويت عن عليّ، وعبد الله، وابن عباس، والنخعي، وابن وثاب، وطلحة، وشقيق، والأعمش. وأنكر شريح القاضي هذه القراءة. وقال: الله لا يعجب، فقال إبراهيم: كان شريح معجباً بعلمه، وعبد الله أعلم منه، يعني عبد الله ابن مسعود. والظاهر أن ضمير المتكلم هو لله تعالى، والعجب لا يجوز على الله تعالى، لأنه روعة تعتري المتعجب من الشيء. وقد جاء في الحديث إسناد العجب إلى الله تعالى، وتؤول على أنه صفة فعل يظهرها الله تعالى في صفة المتعجب منه من تعظيم أو تحقير حتى يصير الناس متعجبين منه. فالمعنى: بل عجبت من ضلالتهم وسوء عملهم، وجعلتها للناظرين فيها وفيما اقترن فيها من شرعي وهداي متعجباً. وقال الزمخشري: أي بلغ من عظيم آياتي وكثرة خلائقي أني عجبت منها، فكيف بعبادي وهؤلاء، لجهلهم وعنادهم، يسخرون من آياتي؟ أو عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفعاله، وهم يسخرون بمن يصف الله بالقدرة عليه، قال: ويجرد العجب لمعنى الاستعظام، أو يخيل العجب ويفرض. وقيل: هو ضمير الرسول، أي قل بل عجبت. قال مكي، وعليّ بن سليمان: وهم يسخرون من نبوتك والحق الذي عندك. {وإذا ذكروا} ووعظوا، {لا يذكرون}، ولا يتعظون. وذكر جناح بن حبيش: ذكروا، بتخفيف الكاف. روي " أن ركانة رجلاً من المشركين من أهل مكة، لقيه الرسول في جبل خال يرعى غنماً له، وكان من أقوى الناس، فقال له: «يا ركانة، أرأيت إن صرعتك أتؤمن من بي»؟ قال: نعم، فصرعه ثلاثاً، ثم عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها، فلم يؤمن، وجاء إلى مكة فقال: يا بني هاشم، ساحروا بصاحبكم أهل الأرض "، فنزلت فيه وفي نظرائه: {وإذا رأوا آية يستسخرون}. قال مجاهد، وقتادة: يسخرون، يكون استفعل بمعنى المجرد. وقيل: فيه معنى الطلب، أي يطلبون أن يكونوا ممن يسخرون. وقال الزمخشري: يبالغون في السخرية، أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها. وقرئ: يستسحرون، بالحاء المهملة، وهو عبارة عن ما قال ركانة لأسحر الرسول. والإشارة بهذا إلى ما ظهر على يديه، عليه السلام، من الخارق المعجز. وتقدم الخلاف في كسر ميم {متنا} وضمها. ومن قرأ: {أئذا} بالاستفهام، فجواب إذا محذوف، أي نبعث، ويدل عليه إنا لمبعوثون، أو يعرى عن الشرط ويكون ظرفاً محضاً، ويقدر العامل: أنبعث إذا متنا؟ وقرأ الجمهور: {أو آباؤنا} بفتح الواو في أو. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وابن عامر، ونافع في رواية قالون: بالسكون، فهي حرف عطف، ومن فتح قالوا وحرف عطف دخلت عليه همزة الاستفهام. قال الزمخشري: {أو آباؤنا} معطوف على محل إن واسمها، أو على الضمير في مبعوثون. والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام، والمعنى: أيبعث أيضاً آباؤنا؟ على زيادة الاستبعاد، يعنون أنهم أقدم، فبعثهم أبعد وأبطل. انتهى. أما قوله معطوف على محل إن واسمها فمذهب سيبويه خلافه، لأن قولك: إن زيداً قائم وعمرو، فيه مرفوع على الابتداء، وخبره محذوف. وأما قوله: أو على الضمير في {مبعوثون} إلى آخره، فلا يجوز عطفه على الضمير، لأن همزة الاستفهام لا تدخل إلا على الجمل، لا على المفرد، لأنه إذا عطف على المفرد كان الفعل عاملاً في المفرد بوساطة حرف العطف، وهمزة الاستفهام لا يعمل فيما بعدها ما قبلها. فقوله: {أو آباؤنا} مبتدأ، خبره محذوف تقديره مبعوثون، ويدل عليه ما قبله. فإذا قلت: أقام زيد أو عمرو، فعمرو مبتدأ محذوف الخبر لما ذكرنا، واستفهامهم تضمن إنكاراً واستبعاداً، فأمر الله نبيه أن يجيبهم بنعم. {وأنتم داخرون}: أي صاغرون، وهي جملة حالية، العامل فيها محذوف تقديره نعم تبعثون، وزادهم في الجواب أن بعثهم وهم ملتبسون بالصغار والذل. وقرأ ابن وثاب: نعم بكسر العين، وتقدم الخلاف فيها في سورة الأعراف، وهي كناية عن البعثة، فإنما بعثتهم {زجرة}: أي صيحة، وهي النفخة الثانية. لما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازاً. وقال الزمخشري: هي مبهمة يوضحها خبرها. انتهى. وكثيراً ما يقول هو وابن مالك أن الضمير يفسره الخبر، وجعل من ذلك ابن مالك {إن هي إلا حياتنا الدنيا} وتكلمنا معه في ذلك في شرح التسهيل. وقال الزمخشري: فإنما جواب شرط مقدر، وتقديره: إذا كان ذلك، فما هي إلا زجرة واحدة. انتهى. وكثيراً ما تضمن جملة الشرط قبل فاء إذا ساغ، تقديره: ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب الأمر والنهي، وما ذكر معهما على قول بعضهم، أما ابتداء فلا يجوز حذفه. و {ينظرون}: من النظر، أي فإذا هم بصراء ينظرون، أو من الانتظار، أي فإذا هم ينتظرون ما يفعل بهم وما يؤمرون به. والظاهر أن قوله: {يا ويلنا} من كلام بعض الكفار لبعض، إلى آخر الجملتين، أقروا بأنه يوم الجزاء، وأنه يوم الفصل، وخاطب بعضهم بعضاً. ووقف أبو حاتم على قوله: {يا ويلنا}، وجعل {هذا يوم الدين} إلى آخره من قول الله لهم أو الملائكة. وقيل: {هذا يوم الدين} من كلام الكفرة، و{هذا يوم الفصل} ليس من كلامهم، وإنما المعنى يقال لهم هذا يوم الفصل. ويوم الدين: يوم الجزاء والمعاوضة، ويوم الفصل: يوم الفرق بين فرق الهدى وفرق الضلال. وفي {الذي كنتم به تكذبون} توبيخ لهم وتقريع.
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)} } احشروا}: خطاب من الله للملائكة، أو خطاب الملائكة بعضهم لبعض، أي اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات، قاله ابن عباس، ورجحه الرماني. وأنواعهم وضرباؤهم، قاله عمرو ابن عباس أيضاً، أو أشباههم من العصاة، وأهل الزنا مع أهل الزنا، وأهل السرقة، أو قرناؤهم الشياطين. وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي: {وأزواجهم}، مرفوعاً عطفاً على ضمير ظلموا، أي وظلم أزواجهم. {فاهدوهم}: أي عرفوهم وقودوهم إلى طريق النار حتى يصطلوها، والجحيم طبقة من طبقات جهنم. {وقفوهم}، كما قال: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} وهو توبيخ لهم، {إنهم مسؤولون}. وقرأ عيسى: أنهم، بفتح الهمزة. قال عبد الله: يسألون عن شرب الماء البارد على طريق الهزء بهم، وعنه أيضاً: يسألون عن لا إله إلا الله. وقال الجمهور: وعن أعمالهم، ويوقفون على قبحها. وفي الحديث: «لا تزول قد ما عبد حتى يسأل عن خمس شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله كيف اكتسبه وفيما أنفقه، وعن ما عمل فيما علم» وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى على نحو ما فسره بقوله: {ما لكم لا تنصرون}، أي إنهم مسئولون عن امتناعهم عن التناصر، وهذا على سبيل التوبيخ في الامتناع. وقال الزمخشري: هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعدما كانوا على خلاف ذلك في الدنيا متعاضدين متناصرين. وقال الثعلبي: {ما لكم لا تنصرون}، جواب أبي جهل حين قال في بدر: {نحن جميع منتصر} وقرئ: لا تناصرون، بتاء واحدة وبتاءين، وبإدغام إحداهما في الأخرى. {بل هم اليوم مستسلمون}: أي قد أسلم بعضهم بعضاً، وخذله عن عجز، وكل واحد منهم مستسلم غير منتصر. {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون}، قال قتادة: هم جن وإنس، وتساؤلهم على معنى التقريع والندم والسخط. قالوا: أي قالت الإنس للجن. قال مجاهد، وابن زيد: أو ضعفة الإنس الكفرة لكبرائهم وقادتهم. و{اليمين}: الجارحة، وليست مرادة هنا. فقيل: استعيرت لجهة الخير، أو للقوة والشدة، أو لجهة الشهوات، أو لجهة التمويه والإغواء وإظهار أنها رشد، أو الحلف. ولكل من هذه الاستعارات وجه. فأما استعارتها لجهة الخير، فلأن الجارحة أشرف العضوين وأيمنها، وكانوا يتمنون بها حتى في السانح، ويصافحون ويماسخون ويناولون ويزاولون بها أكثر الأمور، ويباشرون بها أفاضل الأشياء، وجعلت لكاتب الحسنات، ولأخذ المؤمن كتابه بها، والشمال بخلاف ذلك. وأما استعارتها للقوة والشدة، فإنها يقع بها البطش، فالمعنى: أنكم تعروننا بقوتكم وتحملوننا على طريق الضلال. وأما استعارتها لجهة الشهوات، فلأن جهة اليمين هي الجهة الثقيلة من الإنسان وفيها كبده، وجهة شماله فيها قلبه ومكره، وهي أخف، والمنهزم يرجع على شقه الأيسر، إذ هو أخف شقيه. وأما استعارتها لجهة التمويه والإغواء، فكأنهم شبهوا أقوال المغوين بالسوانح التي هي عندهم محمودة، كأن التمويه في إغوائهم أظهر ما يحمدونه. وأما الحلف، فإنهم يحلفون لهم ويأتونهم إتيان المقسمين على حسن ما يتبعونهم فيه. {قالوا}، أي المخاطبون، إما الجن وإما قادة الكفر: {بل لم تكونوا مؤمنين}: أي لم نقركم على الكفر، بل أنتم من ذواتكم أبيتم الإيمان. وقال الزمخشري: وأعرضتم مع تمكنكم واختباركم، بل كنتم قوماً على الكفر غير ملجئين، وما كان لنا عليكم من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختباركم، بل كنتم قوماً مختارين الطغيان. انتهى. ولفظة التمكن والاختيار ألفاظ المعتزلة جرياً على مذهبهم. {فحق علينا قول ربنا}: أي لزمنا قول ربنا، أي وعيده لنا بالعذاب. والظاهر أن قوله: {إنا لذائقون}، إخبار منهم أنهم ذائقون العذاب جميعهم، الرؤساء، والأتباع. وقال الزمخشري: فلزمنا قول ربنا: {إنا لذائقون}، يعني وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة. ولو حكى الوعيد كما هو لقال: إنكم لذائقون، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم، لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم، ونحوه قول القائل: لقد زعمت هوازن قل مالي *** ولو حكى قولها لقال: قل مالك، ومنه قول المحلف للحالف: لأخرجن، ولنخرجن الهمزة لحكاية لفظ الحالف، والتاء لإقبال المحلف على الحلف. انتهى. {فأغويناكم}: دعوناكم إلى الغي، فكانت فيكم قابلية له فغويتم. {إنا كنا غاوين}: فأردنا أن تشاركونا في الغي. {فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون}: أي يوم إذ تساؤلوا وتراجعوا في القول، وهذا إخبار منه تعالى، كما اشتركوا في الغي، اشتركوا فيما ترتب عليه من العذاب. {إنا كذلك}: أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بكل مجرم، فيترتب على إجرامه عذابه. ثم أخبر عنهم بأكبر إجرامهم، وهو الشرك بالله، واستكبارهم عن توحيده، وإفراده بالآلهية. ثم ذكر عنهم ما قدحوا به في الرسول، وهو نسبته إلى الشعر والجنون، وأنهم ليسوا بتاركي آلهتهم له ولما جاء به، فجمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة. وقولهم: {لشاعر مجنون}: تخليط في كلامهم، وارتباك في غيهم. فإن الشاعر هو عنده من الفهم والحذق وجودة الإدراك ما ينظم به المعاني الغريبة ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة، ومن كان مجنوناً لا يصل إلى شيء من ذلك. ثم أضرب تعالى عن كلامهم، وأخبر بأن جاء الحق، وهو إثبات الذي لا يلحقه إضمحلال، فليس ما جاء به شعراً، بل هو الحق الذي لا شك فيه. ثم أخبر أنه صدق من تقدمه من المرسلين، إذ هو وهم على طريقة واحدة في دعوى الأمم إلى التوحيد وترك عبادة غيره. وقرأ عبد الله: وصدق بتخفيف الدال، المرسلون بالواو رفعاً، أي وصدق المرسلون في التبشير به وفي أنه يأتي آخرهم. وقرأ الجمهور: {لذائقو العذاب}، بحذف النون للإضافة؛ وأبو السمال، وأبان، عن ثعلبة، عن عاصم: بحذفها لالتقاء لام التعريف ونصب العذاب. كما خذف بعضهم التنوين لذلك في قراءة من قرأ أحد الله، ونقل ابن عطية عن أبي السمال أنه قرأ: لذائق منوناً، العذاب بالنصب، ويخرج على أن التقدير جمع، وإلأ لم يتطابق المفرد وضمير الجمع في {إنكم}، وقول الشاعر: فألفيته غير مستعتب *** ولا ذاكر الله إلا قليلاً وقرئ: لذائقون بالنون، العذاب بالنصب، وما ترون إلا جزاء مثل عملكم، إذ هو ثمرة عملكم.
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} {إلا عباد الله}: استثناء منقطع. لما ذكر شيئاً من أحوال الكفار وعذابهم ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ونعيمهم. و{المخلصين}: صفة مدح، لأن كونهم عباد الله، يلزم منه أن يكونوا مخلصين. ووصف {رزق} بمعلوم، أي عندهم. فقد قرت عيونهم بما يستدر عليهم من الرزق، وبأن شهواتهم تأتيهم بحسبها. وقال الزمخشري: معلوم بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر. وقيل: معلوم الوقت كقوله: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} وعن قتادة: الرزق المعلوم: الجنة. وقوله: {في جنات النعيم} يأباه. انتهى. {فواكه} بدل من {رزق}، وهي ما يتلذذ به ولا يتقوت لحفظ الصحة، يعني أن رزقهم كله فواكه لاستغنائهم عن حفظ الصحة بالأقوات لأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد، فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ. وقرأ ابن مقسم: مكرمون، بفتح الكاف مشدد الراء. ذكر أولاً الرزق، وهو ما يتلذذ به الأجسام. وثانياً الإكرام، وهو ما يتلذذ به النفوس، ورزق بإهانة تنكيد. ثم ذكر المحل الذي هم فيه، وهو جنات النعيم. ثم أشرف المحل، وهو السرر. ثم لذة التآنس بأن بعضهم يقابل بعضاً، وهو أتم السرور آنسة. ثم المشروب، وأنهم لا يتناولون ذلك بأنفسهم، بل يطاف عليهم بالكؤوس. ثم وصف ما يطاف عليهم به من الطيب وانتفاء المفاسد. ثم ذكر تمام اللذة الجسمانية، وختم بها كما بدأ باللذة الجسمانية من الرزق، وهي أبلغ الملاذ، وهي التآنس بالنساء. وقرأ الجمهور: {على سرر}، بضم الراء؛ وأبو السمال: بفتحها، وهي لغة بعض تميم؛ وكلب يفتحون ما كان جمعاً على فعل من المضعف إذا كان اسماً. واختلف النحويون في الصفة، فمنهم من قاسها على الاسم ففتح، فيقول ذلك بفتح اللام على تلك اللغة الثانية في الاسم. ومنهم من خص ذلك بالاسم، وهو مورد السماع في تلك اللغة. وقيل: التقابل لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض. وفي الحديث: «أنه في أحيان ترفع عنهم ستور فينظر بعضهم إلى بعض ولا محالة أن أكثر أحيانهم فيها قصورهم» و{يطاف}: مبني للمفعول وحذف الفاعل، وهو المثبت في آية أخرى في قوله: {ويطوف عليهم ولدان مخلدون} {ويطوف عليهم غلمان لهم} ولعلهم من مات من أولاد المشركين قبل التكليف. ففي صحيح البخاري أنهم خدم أهل الجنة. والكاس: ما كان من الزجاجة فيه خمر أو نحوه من الأنبذة، ولا يسمى كأساً إلا وفيه ذلك. وقد سمى الخمر نفسها كأساً، تسمية للشيء باسم محله، قال الشاعر: وكأس شربت على لذة *** وأخرى تداويت منها بها وقال ابن عباس، والضحاك، والأخفش: كل كأس في القرآن فهو خمر. وقيل: الكأس هيئة مخصوصة في الأواني، وهو كل ما اتسع فمه ولم يكن له مقبض، ولا يراعى كونه لخمر أولاً. {من معين}: أي من شراب معين، أو من ثمد معين، وهو الجاري على وجه الأرض كما يجري الماء. و{بيضاء}: صفة للكأس أو للخمر. وقال الحسن: خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن. وفي قراءة عبد الله: صفراء، كما قال بعض المولدين: صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها *** لو مسها حجر مسته سراء و {لذة}: صفة بالمصدر على سبيل المبالغة، أو على حذف، أي ذات لذة، أو على تأنيث لذ بمعنى لذيذ. {لا فيها غول}، قال ابن عباس، وقتادة: هو صداع في الرأس. وقال ابن عباس أيضاً، ومجاهد، وابن زيد: وجع في البطن. انتهى. والاسم يشمل أنواع الفساد الناشئة عن شرب الخمر، فينتفي جميعها من مغص، وصداع، وخمار، وعربدة، ولغو، وتأثيم، ونحو ذلك. ولما كان السكر أعظم مفاسدها، أفرده بالذكر فقال؛ {ولا هم ينزفون}. وقرأ الحرميان، والعربيان: بضم الياء وفتح الزاي هنا، وفي الواقعة: وبذهاب العقل، فسره ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وحمزة، والكسائي: بكسرها فيهما؛ وعاصم: بفتحها هنا وكسرها في الواقعة؛ وابن أبي إسحاق: بفتح الياء وكسر الزاي. وطلحة: بفتح الياء وضم الزاي. قال ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد: {قاصرات الطرف}: قصرن الطرف على أزواجهن، لا يمتد طرفهن إلى أجنبي بقوله تعالى: {عُرُباً} وقال الشاعر: من القاصرات الطرف لو دب محول *** من الذر فوق الخد منها لأثرا والعين: جمع عيناء، وهي الواسعة العين في جمال. {كأنهن بيض مكنون}: شبههن، قال الجمهور: ببيض النعام المكنون في عشه، وهو الأدحية ولونها بياض به صفرة حسنة، وبها تشبه النساء فقال: مضيئات الخدود *** ومنه قول امرئ القيس: وبيضة خدر لا يرام خباؤها *** تمتعت من لهو بها غير معجل كبكر مغاناة البياض بصفرةغذاها *** نمير الماء غير المحلل وقال السدي، وابن جبير: شبه ألوانهن بلون قشر البيضة الداخل، وهو غرقئ البيضة، وهو المكنون في كن، ورجحه الطبري وقال: وأما خارج قشر البيضة فليس بمكنون. وعن ابن عباس، البيض المكنون: الجوهر المصون، واللفظ ينبو عن هذا القول. وقالت فرقة: هو تشبيه عام جملة المرأة بجملة البيضة، أراد بذلك تناسب أجزاء المرأة، وأن كل جزء منها نسبته في الجودة إلى نوعه نسبة الآخر من أجزائها إلى نوعه؛ فنسبة شعرها إلى عينها مستوية، إذ هما غاية في نوعها، والبيضة أشد الأشياء تناسب أجزاء، لأنها من حيث حسنها في النظر واحد، كما قال بعض الأدباء يتغزل: تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى *** بهن اختلافاً بل أتين على قدر وتساؤلهم في الجنة سؤال راحة وتنعم، يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا والإيمان وثمرته. و{فأقبل}: معطوف على {يطاف عليهم}، والمعنى: يشربون فيتحدثون على الشراب، كعادة الشراب في الدنيا. قال الشاعر: وما بقيت من اللذات إلا *** أحاديث الكرام على المدام وجيء به ماضياً لصدق الإخبار به، فكأنه قد وقع. ثم حكى تعالى عن بعضهم ما حكى، يتذكر بذلك نعمه تعالى عليه، حيث هداه إلى الإيمان واعتقاد وقوع البعث والثواب والعقاب، وهو مثال للتحفظ من قرناء السوء والبعد منهم. قال ابن عباس وغيره: كان هذا القائل وقرينه من البشر. وقالت فرقة: هما اللذان في قوله: {ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً} وقال مجاهد: كان إنسياً وجنياً من الشياطين الكفرة. وقرأ الجمهور: {من المصدقين}، بتخفيف الصاد، من التصديق؛ وفرقة: بشدها، من التصدق. قال قرة بن ثعلبة النهراني: كانا شريكين بثمانية آلاف درهم، يعبد الله أحدهما، ويقصر في التجارة والنظر؛ والآخر كان مقبلاً على ماله، فانفصل من شريكه لتقصيره، فكلما اشترى داراً أو جارية أو بستاناً ونحوه، عرضه على المؤمن وفخر عليه، فيتصدق المؤمن بنحو من ذلك ليشتري به في الجنة، فكان من أمرهما في الآخرة ما قصد الله. وقال الزمخشري: نزلت في رجل تصدق بماله لوجه الله، فاحتاج، فاستجدى بعض إخوانه، فقال: وأين مالك؟ فقال: تصدقت به ليعوضني الله في الآخرة خيراً منه، فقال: {أئنك لمن المصدقين} بيوم الدين، أو من المتصدقين لطلب الثواب؟ والله لا أعطيك شيئاً. {أئنا لمدينون}، قال ابن عباس، وقتادة والسدي: لمجازون محاسبون؛ وقيل: لمسوسون مديونون. يقال: دانه: ساسه، ومنه الحديث: «العاقل من دان نفسه» والظاهر أن الضمير في {قال هل أنتم} عائد على قائل في قوله: {قال قائل}. قيل: وفي الكلام حذف تقديره: فقال لهذا القائل حاضروه من الملائكة: إن قرينك هذا في جهنم يعذب، فقال عند ذلك: {هل أنتم مطلعون}. والخطاب في {هل أنتم مطلعون} يجوز أن يكون للملائكة، وأن يكون لرفقائه في الجنة الذين كان هو وإياهم يتساؤلون، أو لخدمته، وهذا هو الظاهر. لما كان قرينه ينكر البعث، علم أنه في النار فقال: {هل أنتم مطلعون} إلى النار لأريكم ذلك القرين؟ وعلى هذا القول لا يحتاج الكلام إلى حذف، ولا لقول الملائكة: إن قرينك في جهنم يعذب. قيل: إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار. وقيل: القائل {هل أنتم مطلعون} الله تعالى. وقيل: بعض الملائكة يقول لأهل الجنة: بل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار. وقرأ الجمهور: {مطلعون}، بتشديد الطاء المفتوحة وفتح النون، واطلع بشد الطاء فعلاً ماضياً. وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي: مطلعون، بإسكان الطاء وفتح النون، فأطلع بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر اللام فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول، وهي قراءة ابن عباس وابن محيصن وعمار بن أبي عمار وأبي سراج. وقرئ: فأطلع، مشدداً مضارعاً منصوباً على جواب الاستفهام. وقرئ: مطلعون، بالتخفيف، فاطلع مخففاً فعلاً ماضياً، وفاطلع مخففاً مضارعاً منصوباً. وقرأ أبو البرهسم، وعمار بن أبي عمار فيما ذكره خلف عن عمار: مطلعون، بتخفيف الطاء وكسر النون، فاطلع ماضياً مبنياً للمفعول؛ ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره. لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم. والوجه مطلعي، كما قال، أو مخرجي هم، ووجهها أبو الفتح على تنزيل اسم الفاعل منزلة المضارع، وأنشد الطبري على هذا قول الشاعر: وما أدري وظني كل ظن *** أمسلمني إلى قومي شراحي قال الفراء: يريد شراحيل. وقال الزمخشري: يريد مطلعون إياي، فوضع المتصل موضع المنفصل كقوله: هم الفاعلون الخير والآمرونه *** أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما، كأنه قال: تطلعون، وهو ضعيف لا يقع إلا في الشعر. انتهى. والتخريج الثاني تخريخ أبي الفتح، وتخريجه الأول لا يجوز، لأنه ليس من مواضع الضمير المنفصل، فيكون المتصل وضع موضعه، لا يجوز هند زيد ضارب إياها، ولا زيد ضارب إياي، وكلام الزمخشري يدل على جوازه، فالأولى تخريج أبي الفتح، وقد جاء منه: أمسلمني إلى قومي شراحي *** وقول الآخر: فهل فتى من سراة القوم يحملني *** وليس حاملني إلا ابن خَمال وقال الآخر: وليس بمعييني *** فهذه أبيات ثبت التنوين فيها مع ياء المتكلم، فكذلك ثبتت نون الجمع معها إجراء للنون مجرى التنوين، لاجتماعهما في السقوط للإضافة. ويقال: طلع علينا فلان واطلع بمعنى واحد. ومن قرأ: فاطلع مبنياً للمفعول، فضميره القائل الذي هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وهو متعد بالهمزة، إذ يقول: طلع زيد وأطلعه غيره. وقال صاحب اللوامح: طلع واطلع، إذا بدا وظهر؛ واطلع اطلاعاً، إذا أقبل وجاء مبنياً، ومعنى ذلك: هل أنتم مقبلون؟ فأقبل. وإن أقيم المصدر فيه مقام الفاعل بتقديره فاطلع الاطلاع، أو حرف الجر المحذوف، أي فاطلع به، لأنه اطلع لازم، كما أن أقبل كذلك. انتهى. وقد ذكرنا أن أطلع عدى بالهمزة من طلع اللازم، وأما قوله: أو حرف الجر المحذوف، أي فاطلع، به فهذا لا يجوز، لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه، لأنه نائب عن الفاعل. فكما أن الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله، فكذلك هذا. لو قلت: زيد ممدود أو مغضوب، تريد به أو عليه، لم يجز. و{سواء الجحيم}: وسطها، تقول: تعبت حتى انقطع سوائي. قال ابن عباس: سمي سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب، يعني سواء الجحيم. وقال خليل العصري: رآه: تبدلت حاله، فلولا ما عرفه الله به لم يعرفه، قال له عند ذلك: {تالله إن كدت لتردين}: أي لتهلكني بإغوائك. وإن مخففة من الثقيلة، يلقي بها القسم؛ وتالله قسم فيه التعجب من سلامته منه إذا كان قرينه قارب أن يرديه. {ولولا نعم ربي}: وهي توفيقه للإيمان والبعد من قرين السوء، {لكنت من المحضرين} للعذاب، كما أحضرته أنت. {أفما نحن بميتين}، قرأ زيد بن عليّ: بمائتين، والظاهر أنه من كلام القائل: يسمع قرينه على جهة التوبيخ له، أي لسنا أهل الجنة بميتين، لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا، بخلاف أهل النار، فإنهم في كل ساعة يتمنون فيها الموت. {وما نحن بمعذبين}، كحال أهل النار، بل نحن منعمون دائماً. ويكون في خطابه ذلك منكلاً له، مقرعاً محزناً له أنعم الله به عليه من دخول الجنة، معلماً له بتباين حاله في الآخرة بحاله. كما كانتا تتباينان في الدنيا من أنه ليس بعد الموت جزاء ظهر له خلافه، يعذب بكفره بالله وإنكار البعث. ويجوز أن يكون خطاباً من القائل لرفقائه، لما رأى ما نزل بقرينه، وقفهم على نعمه تعالى في ديمومة خلودهم في الجنة ونعيمهم فيها. ويتصل قوله: {إن هذا} إلى قوله: {العاملون} بهذا التأويل أيضاً، لا واضحاً خطاباً لرفقائه. ويجوز أن يكون تم كلامه عند قوله: {لتردين}، ويكون {أفما نحن} إلى {بمعذبين} من كلامه وكلام رفقائه، وكذلك {إن هذا} إلى {العاملون}: أي إن هذا الأمر الذي نحن فيه من النعيم والنجاة من النار. وقيل: هو من قول الله تعالى، تقريراً لقولهم وتصديقاً له وخطاباً لرسول الله وأمّته، ويقوي هذا قوله: {لمثل هذا فليعمل العاملون}، والآخرة ليست بدار عمل، ولا يناسب ذلك قول المؤمن في الآخرة إلا على تجوز، كأنه يقول: لمثل هذا ينبغي أن يعمل العاملون. وقال الزمخشري: الذي عطف عليه الفاء محذوف معناه: أنحن مخلدون؟ أي منعمون، فما نحن بميتين ولا معذبين. انتهى. وتقدم من مذهبه أنه إذا تقدمت همزة الاستفهام، وجاء بعدها حرف العطف بضمير ما، يصح به إقرار الهمزة والحرف في محليهما اللذين وقعا فيهما، ومذهب الجماعة أن حرف العطف هو المقدم في التقدير، والهمزة بعده، ولكنه لما كانت الهمزة لها صدر الكلام قدمت، فالتقدير عند الجماعة. فأما وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة، وتقدم الكلام معه في ذلك.
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (82)} لما انقضت قصة المؤمن وقرينه، وكان ذلك على سبيل الاستطراد من شيء إلى شيء، عاد إلى ذكر الجنة والرزق الذي أعده الله فيها لأهلها فقال: أذلك الرزق {خير نزلاً}؟ والنزل ما يعد للأضياف، وعادل بين ذلك الرزق وبين {شجرة الزقوم}. فلاستواء الرزق المعلوم يحصل به اللذة والسرور، وشجرة الزقوم يحصل بها الألم والغم، فلا اشتراك بينهما في الخيرية. والمراد تقرير قريش والكفار وتوقيفهم على شيئين، أحدهما فاسد. ولو كان الكلام استفهاماً حقيقة لم يجز، إذ لا يتوهم أحد أن في شجرة الزقوم خيراً حتى يعادل بينهما وبين رزق الجنة. ولكن المؤمن، لما اختار ما أدّى إلى رزق الجنة، والكافر اختار ما أدّى إلى شجرة الزقوم، قيل ذلك توبيخاً للكافرين وتوقيفاً على سوء اختيارهم. {إنا جعلناها فتنة للظالمين}، قال قتادة، ومجاهد، والسدي: أبو جهل ونظراؤه، لما نزلت قال للكفار، يخبر محمد عن النار أنها تنبت الأشجار، وهي تأكلها وتذهبها، ففتنوا بذلك أنفسهم وجملة أتباعهم. وقال أبو جهل: إنما الزقوم: التمر بالزبد، ونحن نتزقمه. وقيل: منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. واستعير الطلع، وهي النخلة، لما تحمل هذه الشجرة، وشبه طلعها بثمر شجرة معروفة يقال لثمرها رؤوس الشياطين، وهي بناحية اليمن يقال لها الاستن، وذكرها النابغة في قوله: تحيد من استن سود أسافله *** مشي الإماء الغوادي تحمل الحزما وهو شجر خشن مر منكر الصورة، سمت ثمره العرب بذلك تشبها برؤوس الشياطين، ثم صار أصلاً يشبه به. وقيل: هو شجرة يقال لها الصوم، ذكرها ساعدة بن حوبة الهذلي في قوله: موكل بشدوف الصوم يرقبها *** من المناظر مخطوف الحشازرم وقيل: الشياطين صنف من الحيات ذوات أعراف، ومنه: عجيز تحلف حين أحلف *** كمثل شيطان الحماط أعرف وقيل: شبه بما اشتهر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقبحها، وإن كانت غير مرئية، ولذلك يصورون الشيطان في أقبح الصور. وإذا رأوا أشعث منتفش الشعر قالوا: كأنه وجه شيطان، وكأن رأسه رأس شيطان، وهذه بخلاف الملك، يشبهون به الصورة الحسنة. وكما شبه امرؤ القيس المسنونة الزرق بأنياب الغول في قوله: ومسنونة زرق كأنياب أغوال *** وإن كان لم يشاهد تلك الأنياب، وهذا كله تشبيه تخييلي. والضمير في منها يعود على الشجرة، أي من طلعها. وقرأ الجمهور: {لشوباً} بفتح الشين؛ وشيبان النحوي: بضمها. وقال الزجاج: الفتح للمصدر والضم للاسم، يعني أنه فعل بمعنى مفعول، أي مشوب، كالنقص بمعنى المنقوص. وفسر بالخلط والحميم الماء السخن جداً، وقيل: يراد به هنا شرابهم الذي هو طينة الخبال صديدهم وما ساح منهم. ولما ذكر أنهم يملأُون بطونهم من شجرة الزقوم للجوع الذي يلحقهم، أو لإكراههم على الأكل وملء البطون زيادة في عذابهم، ذكر ما يسقون لغلبة العطش، وهو ما يمزج لهم من الحميم. ولما كان الأكل يعتقبه ملء البطن، كان العطف بالفاء في قوله: {فمالئون}. ولما كان الشرب يكثر تراخيه عن الأكل، أتي بلفظ ثم المقتضية المهلة، أو لما امتلأت بطونهم من ثمرة الشجرة، وهو حار، أحرق بطونهم وعطشهم، فأخر سقيهم زماناً ليزدادوا بالعطش عذاباً إلى عذابهم، ثم سقوا ما هو أحر وآلم وأكره. {ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم}: لما ذهب بهم من منازلهم التي أسكنوها في النار إلى شجرة الزقوم للأكل والتملؤ منها والسقي من الحميم ونواحي رجوعهم إلى منازلهم، دخلت ثم لدلالة على ذلك، والرجوع دليل على الانتقال في وقت الأكل والشرب إلى مكان غير مكانهما، ثم ذكر تعالى حالهم في تقليد آبائهم. والضمير لقريش وأن ذلك التقليد كان سبباً لاستحقاقهم تلك الشدائد، أي وجدوا آباءهم ضالين، فاتبعوهم على ضلالتهم، مسرعين في ذلك لا يثبطهم شيء. ثم أخبر بضلال أكثر من تقدم من الأمم، هذا وما خلت أزمانهم من إرسال الرسل، وإنذارهم عواقب التكذيب. وفي قوله: {فانظر} ما يقتضي إهلاكهم وسوء عاقبتهم، واستثنى المخلصين من عباده، وهم الأقل المقابل لقوله: {أكثر الأولين}، والمعنى: إلا عباد الله، فإنهم نجوا. ولما ذكر ضلال الأولين، وذكر أولهم شهرة، وهم قوم نوح، عليه السلام، تضمن أشياء منها: الدعاء على قومه، وسؤاله النجاة، وطلب النصرة. وأجابه تعالى في كل ذلك إجابة بلغ بها مراده. واللام في {فلنعم} جواب قسم كقوله: يميناً لنعم السيدان وجدتما *** والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: فلنعم المجيبون نحن، وجاء بصيغة الجمع للعظمة والكبرياء لقوله: {فقدرنا فنعم القادرون} و{الكرب العظيم}، قال السدي: الغرق، ومنه تكذيب الكفرة وركوب الماء، وهوله، وهم فصل متعين للفصيلة لا يحتمل غيره. قال ابن عباس، وقتادة: أهل الأرض كلهم من ذرية نوح. وفي الحديث: «أنه عليه السلام قرأ {وجعلنا ذريتهم هم الباقين} فقال: سام وحام ويافث» وقال الطبري: العرب من أولاد سام، والسودان من أولاد حام، والترك وغيرهم من أولاد يافث. وقالت فرقة: أبقى الله ذرية نوح ومد في نسله، وليس الناس منحصرين في نسله، بل في الأمم من لا يرجع إليه. {وتركنا عليه في الآخرين}: أي في الباقين غابر الدهر؛ ومفعول تركنا محذوف تقديره ثناء حسناً جميلاً في آخر الدهر، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وسلام. رفع بالابتداء مستأنف، سلم الله عليه ليقتدي بذلك البشر، فلا يذكره أحد من العالمين بسوء. سلم تعالى عليه جزاء على ما صبر طويلاً، من أقوال الكفرة وإذايتهم له. وقال الزمخشري: {وتركنا عليه في الآخرين}، هذه الكلمة، وهي {سلام على نوح في العالمين} يعني: يسلمون عليه تسليماً، ويدعون له، وهو الكلام المحكي، كقولك: قرأت سورة أنزلناها. انتهى. وهذا قول الفراء وغيره من الكوفيين، وهذا هو المتروك عليه، وكأنه قال: وتركنا على نوح تسليماً يسلم به عليه إلى يوم القيامة. انتهى. وفي قراءة عبدالله: سلاماً بالنصب، ومعنى في العالمين: ثبوت هذه التحية مثبوتة فيهم جميعاً، مدامة عليه في الملائكة، والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم. ثم علل هذه التحية بأنه كان محسناً، ثم علل إحسانه بكونه مؤمناً، فدل على جلاله الإيمان ومحله عند الله. {ثم أغرقنا الآخرين}: أي من كان مكذباً له من قومه، لما ذكر تحياته ونجاة أهله، إذ كانوا مؤمنين، ذكر هلاك غيرهم بالغرق.
{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)} والظاهر عود الضمير في {من شعيته} على نوح، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، أي ممن شايعه في أصول الدين والتوحيد، وان اختلفت شرائعهما، أو اتفق أكثرهما، أو ممن شايعه في التصلب في دين الله ومصابرة المكذبين. وكان بين نوح وإبراهيم ألفا سنة وستمائة وأربعون سنة، وبينهما من الأنبياء هود وصالح، عليهما السلام. وقال الفراء: الضمير فى {من شعيته} يعود على محمد صلى الله عليه وسلم والأعرف أن المتأخر في الزمان هو شيعة للمتقدم، وجاء عكس ذلك في قول الكميت: وما لي إلا آل أحمد شيعة *** ومالي إلا مشعب الحق مشعب جعلهم شيعة لنفسه. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم يتعلق الظرف؟ قلت: بما في الشيعة من معنى المشايعة، يعني: وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم، أو بمحذوف، وهو اذكر. انتهى. أما التخريج الأول فلا يجوز، لأن فيه الفضل بين العامل والمعمول بأجنبي، وهو قوله: {لإبراهيم}، لأنه أجنبي من شيعته ومن إذ، وزاد المنع، إذ قدره ممن شايعه حين جاء لإبراهيم. وأيضاً فلام التوكيد يمنع أن يعمل ما قبلها فيما بعدها. لو قلت: إن ضارباً بالقادم علينا زيداً، وتقديره: ضارباً زيداً لقادم علينا، لم يجز. وأما تقديره اذكر، فهو المعهود عند المعربين. ومجيئه ربه بقلب سليم: إخلاصه الدين لله، وسلامة قلبه: براءته من الشرك والشك والنقائص التي تعتري القلوب من الغل والحسد والخبث والمكر والكبر ونحوها. قال عروة بن الزبير: لم يعلن شيئاً قط. وقيل: سليم من الشرك ولا معنى للتخصيص. وأجازوا في نصب {أئفكاً} وجوها: أحدها: أن يكون مفعولاً بتريدون، والتهديد لأمته، وهو استفهام تقرير، ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه، وذكره الزمخشري قال: فسر الإفك بقوله: آلهة من دون الله، على أنها إفك في أنفسهم. والثاني: أن يكون مفعولاً من أجله أي: تريدون آلهة من دون الله فكاً، وآلهة مفعول به، وقدمه عناية به، وقدم المفعول له على المفعول به، لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم، وبدأ بهذا الوجه الزمخشري. والثالث: أن يكون حالاً، أي أتريدون آلهة من دون الله آفكين؟ قاله الزمخشري، وجعل المصدر حالاً لا يطرد إلا مع أما في نحو: أما علماً فعالم. {فما ظنكم برب العالمين}: استفهام توبيخ وتحذير وتوعد، أي: أي شيء ظنكم بمن هو يستحق لأن تعبدوه، إذ هو رب العالمين حتى تركتم عبادته وعدلتم به الأصنام؟ أي: أيّ شيء ظنكم بفعله معكم من عقابكم، إذ قد عبدتم غيره؟ كما تقول: أسأت آل فلان، فما ظنك به أن يوقع بك خيراً ما أسأت إليه؟ ولما وبخهم على عبادة غير الله، أراد أن يريهم أن أصنامهم لا تنفع ولا تضر، فعهد إلى ما يجعله منفرداً بها حتى يكسرها ويبين لهم حالها وعجزها. {فنظر نظرة في النجوم}، والظاهر أنه أراد علم الكواكب، وما يعزي إليها من التأثيرات التي جعلها الله لها. والظاهر أن نظره كان فيها، أي في علمها، أو في كتابها الذي اشتمل على أحوالها وأحكامها. قيل: وكانوا يعانون ذلك، فأتاهم من الجهة التي يعانونها، وأوهمهم بأنه استدل بأمارة في علم النجوم أنه سقيم، أي يشارف السقم. قيل: وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم إذ ذاك، وخافوا العدوى وهربوا منه إلى عيدهم، ولذلك قال: {فتولوا عنه مدبرين}، قال معناه ابن عباس، وتركوه في بيت الأصنام ففعل ما فعل. وقيل: كانوا أهل رعاية وفلاحة، وكانوا يحتاجون إلى علم النجوم. وقيل: أرسل إليهم ملكهم أن غداً عيدنا، فاحضر معنا، فنظر إلى نجم طالع فقال: إن يطلع مع سقمي. وقيل: معنى {فنظر نظرة في النجوم}، أي فيما نجم إليه من أمور قومه وحاله معهم، ومعنى: {فتولوا عنه مدبرين}، أي لكفرهم به واحتقارهم له، وقوله: {إني سقيم}، من المعاريض، عرض أنه يسقم في المآل، أي يشارف السقم. قيل: وهو الطاعون، وكان أغلب، وفهموا منه أنه ملتبس بالسقم، وابن آدم لا بد أن يسقم، والمثل: كفى بالسلامة داء. قال الشاعر: فدعوت ربي بالسلامة جاهداً *** ليصحني فإذا السلامة داء ومات رجل فجأة، فاكتنف عليه الناس فقالوا: مات وهو صحيح، فقال أعرابي: أصحيح من الموت في عنقه؟ {فراغ إلى آلهتهم}: أي أصنامهم التي هي في زعمهم آلهة، كقوله: {أين شركائي} وعرض الأكل عليها. واستفهامها عن النطق هو على سبيل الهزء، لكونها منحطة عن رتبة عابديها، إذ هم يأكلون وينطقون. وروي أنهم كانوا يضعون عندها طعاماً، ويعتقدون أنها تصيب منه شيئاً، وإنما يأكله خدمتها. {فراغ عليهم ضرباً باليمين}: أي أقبل عليهم مستخفياً ضارباً، فهو مصدر فى موضع الحال، أو يضربهم ضرباً، فهو مصدر فعل محذوف، أو ضمن فراغ عليهم معنى ضربهم، وباليمين: أي يمين يديه. قال ابن عباس: لأنها أقوى يديه أو بقوته، لأنه قيل: كان يجمع يديه في الآلة التي يضربها بها وهي الفأس. وقيل: سبب الحلف الذي هو: {وتالله لأكيدن أصنامكم} وقرأ الجمهور: {يزفون}، بفتح الياء، من زف: أسرع، أو من زفاف العروس، وهو التمهل في المشية، إذ كانوا في طمأنينة أن ينال أصنامهم شيء لعزتهم. وقرأ حمزة، ومجاهد، وابن وثاب، والأعمش: بضم الياء، من أزف: دخل في الزفيف، فهي للتعدي، قاله الأصمعي. وقرأ مجاهد أيضاً، وعبد الله بن يزيد، والضحاك، ويحيى بن عبد الرحمن المقري، وابن أبي عبلة: يزفون مضارع زف بمعنى أسرع. وقال الكسائي، والفراء: لا نعرفها بمعنى زف. وقال مجاهد: الوزيف: السيلان. وقرئ: يزفون مبنياً للمفعول. وقرئ: يزفون بسكون الزاى، من زفاه إذا حداه، فكان بعضهم يزفو بعضاً لتسارعهم إليه. وبين قوله: {فراغ عليهم ضرباً باليمين} وبين قوله: {فأقبلوا عليه يزفون} جمل محذوفة هي مذكورة في سورة اقترب، ولا تعارض بين قوله: {فأقبلوا عليه يزفون} وبين سؤالهم {من فعل هذا بآلهتنا} وأخبار من عرض بأنه إبراهيم كان يذكر أصنامهم، لأن هذا الإقبال كان يقتضي تلك الجمل المحذوفة، أي فأقبلوا إليه، أي إلى الإنكار عليه في كسر أصنامهم وتأنيبه على ذلك. وليس هذا الإقبال من عندهم، بل بعد مجيئهم من عندهم جرت تلك المفاوضات المذكورة في سورة اقترب. واستسلف الزمخشري في كلامه أشياء لم تتضمنها الآيات، صارت الآيات عنده بها كالمتناقضة. قال، حيث ذكر ههنا: إنهم أدبروا عنه خيفة العدوى، فلما أبصروه يكسر أصنامهم، أقبلوا إليه متبادرين ليكفوه ويقعوا به. وذكرتم أنهم سألوا عن الكاسر حتى قيل: سمعنا إبراهيم يذمهم، فلعله هو الكاسر. ففي إحداهما أنهم شاهدوه يكسرها، وفي الآخرى أنهم استدلوا بذمه على أنه الكاسر. انتهى. ما أبدى من التناقض، وليس في الآيات ما يدل على أنهم أبصروه يكسرهم، فيكون فيه كالتناقض. ولما قرر أنه كالتناقض قال: قلت فيه وجهان: أحدهما: أن يكون الذين أبصروه وزفوا إليه نفراً منهم دون جمهورهم وكبرائهم، فلما رجع الجمهور والعلية من عندهم إلى بيت الأصنام ليأكلوا الطعام الذي وضعوه عندها لتبرك عليه ورأوها مكسورة، اشمأزوا من ذلك وسألوا من فعل هذا بها؟ لم ينم عليه أولئك النفر نميمة صريحة، ولكن على سبيل التورية والتعريض بقولهم: سمعنا فتى يذكرهم لبعض الصوارف. والثاني: أن يكسرها ويذهب ولا يشعر بذلك أحد، ويكون إقبالهم إليه يزفون بعد رجوعهم من عيدهم، وسؤالهم عن الكاسر، وقولهم: {قالوا فأتوا به على أعين الناس} انتهى. وهذا الوجه الثاني الذي ذكر هو الصحيح. {قال أتعبدون ما تنحتون}: استفهام توبيخ وإنكار عليهم، كيف هم يعبدون صوراً صوّروها بأيديهم وشكلوها على ما يريدون من الأشكال؟ {والله خلقكم وما تعملون}: الظاهر أن ما موصولة بمعنى الذي معطوفة على الضمير في خلقكم، أي أنشأ ذواتكم وذوات ما تعملون من الأصنام، والعمل هنا هو التصوير والتشكيل، كما يقول: عمل الصائغ الخلخال، وعمل الحداد القفل، والنجار الخزانة؛ ويحمل ذلك على أن ما بمعنى الذي يتم الاحتجاج عليهم، بأن كلاً من الصنم وعابده هو مخلوق لله تعالى، والعابد هو المصور ذلك المعبود، فكيف يعبد مخلوق مخلوقاً؟ وكلاهما خلق الله، وهو المنفرد بإنشاء ذواتهما. والعابد مصور الصنم معبوده. و«ما» في: {وما تنحتون} بمعنى تأذى، فكذلك في {وما تعملون}، لأن نحتهم هو عملهم. وقيل: ما مصدرية، أي خلقكم وعملكم، وجعلوا ذلك قاعدة على خلق الله أفعال العباد. وقد بدد الزمخشري تقابل هذه المقالة بما يوقف عليه في كتابه. وقيل: ما استفهام إنكاري، أي: وأي شيء تعملون في عبادتكم أصناماً تنحتونها؟ أي لا عمل لكم يعتبر. وقيل: ما نافية، أي وما أنتم تعملون شيئاً في وقت خلقكم ولا تقدرون على شيء. وكون ما مصدرية واستفهامية ونعتاً، أقوال متعلقة خارجة عن طريق البلاغة. ولما غلبهم إبراهيم، عليه السلام، بالحجة، مالوا إلى الغلبة بقوة الشوكة والجمع فقالوا: {ابنوا له بنياناً}، أي في موضع إيقاد النار. وقيل: هو المنجنيق الذي رمي عنه. وأرادوا به كيداً، فأبطل الله مكرهم، وجعلهم الأخسرين الأسفلين، وكذا عادة من غلب بالحجة رجع إلى الكيد.
|